عادل الباز يكتب .. تفاءلوا بالوطن تجدوه
١
قال لي ظللت خمسين عاما أدعو خلف إمامنا (اللهم أمٌنا في أوطاننا) ولم أعرف قيمة أن تكون آمنا في وطنك أبدا إلا بعد أن فقدته !!. قد تكون مستقرا في وطن ما ولكن لن تحس بالأمان أبدا… لازلت أذكر عبارة مريد البرغوثي فى روايته الرائعة ( رأيت رام الله) “كأن الغريب يفضل العلاقة الهشة ويضطرب من متانتها.المشرد لا يتشبث يخاف أن يتشبث.المكسور الارادة يعيش في إيقاعه الداخلي الخاص.الأماكن بالنسبة له وسائل إنتقال تحمله إلى أماكن أخرى. إلى حالات أخرى.). ثم قال (الوطن هو المكان الذى لا تحمل فيه جواز سفر وبطاقة دائمة فى جيبك ولا تلتفت فيه للخلف أبدا.)
٢
تكاثرت الوعود وكثر السؤال ..متى العودة للوطن…..ذلك سؤال مستحيل…كانت إجابتى الدائمة قريبا بإذن الله. حين تكون فى الغربة ويفاجئك هذا السؤال يوميا لا مناص أن تلجأ لبث الأمل وكنت مرات كثيرة اتساءل ما اذا كانت اجابتي هذه حقيقة بناء على معلومات أم هى مجرد أماني عذبة ادلقها في آذان السامعين لتهدئة نفوسهم. وما انتابني يقين قط مثل ما ينتابنى هذه الايام… بأننا سنعود قريباً لأحضان وطننا بإذن الله… وإذا سألني أحدهم لماذا؟ قلت له..
٣
لأننا حين غادرنا أوطاننا للمنافي لم يغادرنا الوطن…. ظل موجوداً هناك في وجداننا نحس بأننا نمسك به فى كل لحظة، هو أمامنا في شاشة تلفوناتنا بأيدينا، فى نقاشاتنا، بتغريداتنا على صفحات صحفنا في كل كتاباتنا في غنانا، أحلامنا في جدلنا المستمر والذي لا يتوقف في الأسافير.. هناك وهناك لا شيء يستحق السؤال ولا الدعاء لسواه. هل هذا وطن يمكن أن نتركه وإذا تركناه لن يتركنا؟.
٤
رغم كل شيء لم اجد شخصا واحدا لا يحلم بالعودة للسودان…وذلك لأننا اكتشفنا جميعنا وفي ذات الوقت انه جميل وكم هو بديع …وكلنا يشعر بأنه مسؤول الآن عن المحنة التي يعيشها…. نختبئ جميعا الآن فى ذواتنا خجلا ونتساءل هل هذا الوطن الجميل يستحق منا كل هذا العقوق وكل هذه الصراعات ….هذا الإحساس بالندم والمسئولية هو ماسيعيدنا اليه مهرولين….
٥
كثيرون غادروا أوطانهم ولم يتركوا لهم جذور ممتدة هناك ولكن جذرنا يمتد لآلاف السنين…جذر لايمكن اقتلاعه، ولكن يمكن أن تمتد فروعه وأغصانه وثمره للدنيا.. من النيل يسقى وفي أرضه كل شيء يزهر.
٦
يقول صالحنا الطيب ( ونظرت خلال النافذة إلى النخلة القائمة في فناء دارنا؛ فـ علمت أن الحياة لا تزال بخير .. أنظر إلي جذعها القوي المعتدل؛ وإلى عروقها الضاربة في الأرض؛ وإلى الجريد الأخضر المنهدل فوق هامتها.. فـأُحس بالطمأنينة؛ أُحس أنني لست ريشة في مهب الريح .. ولكنني مثل تلك النخلة مخلوق له أصل؛ له جذور؛ له هدف .).
٧
هذا وطن لنا في أرضه عرق ودم وفي سمائه رجاء، كنا دائما مستعدون لتخصيب أرضه بالدماء القانية متى ما دعا داعي الفداء…ألم تر يا هذا كيف هب الجيش والشعب يدافعان عنه ويهبونه الشهداء دون أن يكون لأحد مطمع في سلطة أو جاه.. انظر لآلاف الشباب الذين يتدافعون الآن مستنفرين ومتسابقين للشهادة….والى جنة عرضها السماوات والأرض.
٨
انظر يا أخي، خمسة عشر دولة تتصارع الآن فى أرضه حسدا وطمعا….جاءوا بالجنجويد والنهابة والكسابة و(مقطوعي الطاري) من بقاع أفريقيا للاحتلال ونهبه، هؤلاء لا يتصارعون والذين ينفقون الملايين لا ينفقونها ليستولوا على ارض خراب.. فنعمة موارده لا تحد ولاتعد وهم يعلمون، ثم إنهم يدركون أن هذا وطن خطر إذا ما نهض ولذا لابد من شغله بالحروب المستمرة والمؤامرات التي لم تتوقف يوما. وفي كل مرة حاولوا قتله بعثوه حيا وأكثر منعة وقوة.
٩
سنعود اليه.. يوما قريبا لنعمر مصانعة بالإنتاج ومدارسه وجامعاته بالعلم النافع وسنعود كما كنا نمرح في مسارحه نحيي لياليه بالمديح والغناء.. سنعود نلتقي فيه بالأحباب كلهم ونعمره بالمحبة والتسامح … ونمد أيدينا لبكره وللمستقبل… وكيف لا نعود اليه… سنعود له لأنه وطن
( لا ثوبٌ فنخلعُهُ
إن ضاق عنا.. ولا دارٌ فننتقلُ
لكنه وطنٌ، أدنى مكارمه
يا صبر أيوب، أنا فيه نكتملُ
وأنه غُرَّةُ الأوطان أجمعِها
فأين عن غرة الأوطان نرتحلُ؟!.).