مصر الآمنة
منذ أن تفتحت أذاننا وألسنتنا اعتدنا ان نسمع لفظ لكلمتين ولا نعرف كنههما ونحن أطفال يافعين مكة العزاها الله ومصر أم الدنيا. فعندما تخرج والدتك من المنزل الي جاراتها مثلا .وانت تتبعها قائلا أمي بكسر الميم ماشة يين وهي لا ترغب ان تصحبها تقول لك ماشي مصر ام الدنيا..او لما ترتكب جريمة ككسر احدي مواعين بيتها المهمة وتغضب هي وتحاول ان تقبض عليك فتجري منها بسرعة الصاروخ تقول لك كن مشيت مكة العزاها الله ما بخليك.ونحن لا نعرف اين تقع هاتين المدينتين ولكن في خيالنا أنهما شئ عظيم ولما كبرنا عرفنا عنهما شيئا فشيئا الشئ العظيم وتمنيت ان أزورهما لكن كان ذلك عندي شبه محال اين لي بمصر ومكة.والحمدلله لما شببت عن الطوق كانتا اول مدينتين أزرهما خارج وطني…ففي عام ١٩٧٦ زرت مكة المكرمة معتمرا ومباشرة في عام ١٩٧٨ زرت مصر الآمنة بإذن الله. وكان انطباعي الأولي عن مصر رسمه لي ضابط الجوازات بمطار القاهرة فقد كان استقباله لي حارا وكأنه يعرفني من مدة طويلة بل ناداني من وسط الركاب المصطفين متجاوزا وانا شاب صغير وأشر لي علي جوازي وحتي الآن لا أعلم سر ذلك التمييز ولكنه ترك في نفسي أثرا طيبا لازمني حتي كتابة هذا المقال. بل تدور الدنيا لأكمل دراستي الجامعية بمصر وأزيد اني عشقتها فمنذ عام ١٩٧٨ وحتي تاريخه زرت مصر عشرات المرات.وأقسم بالله ولست بغاسق أنه لم يكشر في وجهي مصري واحد او مصرية…ولذلك تتبعت تاريخها ووجدته تاريخا ثرا وحضارة ضاربة في جذور التاريخ. بها ثلث آثار الدنيا وأول متحف في التاريخ. صحيح انها تعرضت لغزوات من الشرق والغرب والجنوب لكن ما ان دخل الغازي إلا وغزته مصر بعبق تاريخها وطيبة أهلها وخيرات أراضيها(إدخلوا مصرا فإن لكم ما سألتم )ولذلك معظم الغزاة تركوا اثرا تاريخيا طيبا في مصر.حتي قيل ان فرعون كان غازيا فترك الاهرامات المعجزة والاسكندر ترك الإسكندرية ونابليون ترك المعرفة بالطباعة والمعز لدين الله الفاطمي ترك القاهرة بأزهرها الشريف وعمرو بن العاص ترك الفسطاط. وأبناء محمد علي باشا حفروا قناة السويس.وصلاح الدين الايوبي ترك القلعة وهكذا وهكذا علي سبيل المثال. وجاء دور ابنائها الوطنيين من صلب قواتها المسلحة.فمحمد نجيب خلصها من الطغيان الملكي وجمال عبدالناصر ترك سد اسوان المنيع والسادات ترك لها نصر أكتوبر وحسني مبارك ترك الاستقرار واراح الجندي المصري من الموت الزؤام الذي كان يتهدده في كل مكان.ومرسي ترك قنديلا في درب الديمقراطية الذي بدأه أبناء الباشا محمد علي .والآن مصر تعيش مرحلة بناء البنية التحتية التي تضاهي قامات وهامات الدولة الأروبية.فاليوم اذا رغبت مصر الإنضمام الي الإتحاد الأوربي فإن بنيتها التحتية ستمنحها درجة عالية جدا توفر لها مقعدا مريحا وفي الصفوف الأمامية لمقاعد الإتحاد الأوربي وسوف يسجل التاريخ للرئيس عبد الفتاح السيسي ويكتب في صفحته وان كنت الأخير زمانه ولكنك أتيت بما لم يأت به الأوائل. هذا من ناحية عبق التاريخ وزهو الحاضر واستشراف المستقبل.
أما الدين فحدث ولا حرج فإن ابو الأنبياء ابراهيم عليه السلام مر من هنا والي مكة المكرمة عكس رحلتنا فذهب إليها مستصحبا هدية غالية من ملكها أمنا هاجر وانجبت له من دون النساء مبتدءا جد العرب والعجم سيدنا إسماعيل عليه السلام وجاء من صلب إبراهيم عليه السلام من الأنبياء والصحابة الأجلاء وتابعيهم والذين كانوا بمصر ما يصعب عدهم عدا.لكن الله أحصاهم وعدهم عدا.ومن عجائب ومعجزات مصر ام الدنيا فبعد أن اهدته أمنا هاجر فأنجبت له ولد بعد عقم. فإن المصريين قد أهدوا افضل الخلق أجمعين نبينا وسيدنا محمد صلي الله عليه وسلم أمنا مارية القبطية والتي اهدت نبينا ولد من أجمل الأبناء وبه من الولدان ختم.وترك المصطفي وصيته بالاستوصاء بمصر خيرا ففيها الحسب والنسب.
أما مصر والسودان فأمرهما أعجب حسبك من شقيقين جارين يربط بينهما مثله والهواء فمن فقد الهواء فقد الحياة وقال تعالي وجعلنا من الماء كل شئ حي.فالنيل مثل الهواء اي منهما افتقد فلا حياة.فالنيل أعظم رابط بين مصر والسودان وكأنها رسالة السماء تقول ان لا فكاك.كثيرون روجوا لكي يباعدوا بين الشقيقين وخاصة المستعمرون وأذنابهم ومخابراتهم وبسياسة فرق تسد التي اعترف بها المستعمر نفسه.حاولوا ان يبنوا الحواجز ولكنها انهارت كما انهار خط بارليف.زعموا ان مصر استعمرت السودان وهذا كذب وبهتان. فمصر كانت مستعمرة وكذلك السودان ووضعت كطلاء للمستعمر حتي تتحمل كل البوائق بما أنه هو الذي ارتكبها. فعندما قامت الثورة المهدية سنة ١٨٨١ ضد الإنجليز وهم يزعمون ان مصر هي المستعمرة للسودان كان أحمد عرابي باشا يحارب في الإنجليز داخل مصر ١٨٨٢.وعندما نجحت الثورة المهدية في السودان أوصي المهدي قادة جيشه بعدم قتل غردون باشا الإنجليزي الذي كان حاكما للسودان حتي يقايضه بعرابي باشا المسجون والمنفي من الإنجليز في جزيرة سرنديب.اما انهيار حائط بالريف الحقيقي حصل عندما أستلم الضباط المصريون الحقيقيون السلطة في مصر بعد ان طردوا الملك فاروق.اولا قالوا ان السودان الشقيق المستقل افضل من التابع المتعب وبدون رضاء اهله(وياليتنا فهمنا الدرس مع الجنوبيين كما فهم المصريون إدارة ملف السودان ) وقد صدق المصريون فعندما قامت حرب حرب عام ١٩٦٧ فإن السودان لعب دور الشقيق للشقيق لايضاهيه زميل ولا صديق . هذه بدايات انهيار سد بارليف الإنجليزي قبل بارليف الإسرائيلي. أما الطامة الكبري والضربة القاتلة للمستعمر عندما قررت حكومة الثورة المصرية ١٩٥٣ ان تجمع الفرقاء المتشاكسون السودانيون بشتي احزابهم في مصر الكنانة ليتفقوا علي صيغة مشتركة ليعلنوا بها استقلالهم عن الإنجليز الذي وصم زورا وبهتانا بإسم الحكم الثنائي علي اعتبار مصر شريك للانجليز في حكم السودان بما ان اللحظة التي كان يناضل فيها علي عبداللطيف وصحبه بالخلاص من الاستعمار ويطالب بالوحدة مع مصر سنة ١٩٢٤ فقد سبقة زميله البطل سعد زغلول يطالب بذات البرنامج للتخلص من الاستعمار الإنجليزي. فكيف تكون مصر استعمرت السودان اذا كانت هي نفسها مستعمرة كبرت كلمة تخرج من افواهمم.
والآن التاريخ يعيد نفسه ولكن للأسف هذه المرة صراع دموي عنيف بين السودانيين انفسهم واتجهت ملفاتهم شرقا وغربا.ومع تقديرنا التام ومع شديد الإحترام لكل من بذل جهدا لحل المعضلة السودانية إلا ان أهلنا عندهم مثل يقول الشوكة بسلوها بدربها.بمعني ليس هناك دولة في الدنيا تعرف الملف السوداني اكثر من مصر والعكس.ففي تقديري ان مصر إن لعبت دورها الطليعي والتاريخي وتتبعت أثر علي ماهر ومحمد نجيب وجمال عبدالناصر فسوف تنجح نجاحا كبيرا في التقارب بين الفرق المتنافرة في السودان.وهذا لا ينقص ابدا من مبادرة جدة شيئا وبلغة الرياضيين ان جدة جهزت الكرة للقاهرة في خط ستة ويبقي الهدف في المرمي يحتاج الي الخبرة وهو المطلوب في هذه المرحلة.
اجتررت كلمتي مكة العزاها الله ومصر ام الدنيا اللتان جرتا علي ألسنة امهاتنا محاولا ربط ذلك التاريخ المجيد بحاضرنا الوليد الذي يحتاج الي حاضنة دافئة وهاهي مكة المكرمة ومصر الكنانة تمدان يديهما بيضاء من غير سوء فهل من ممد يده كذلك؟!!
قال تعالي(والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ) صدق الله العظيم
بقلم د/ محمد عيسي عليو
٢٨ فبراير ٢٠٢٤